تفضلي
انتقال الخلافة إلى الأمويين
لما طمع بنو أمية في الخلافة كانت قد أفضت إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) صهر النبي (صلّى الله عليه وآله) وابن عمه والمسلمون يعتقدون أنه أحق الناس بها لقرابته من النبي (صلّى الله عليه وآله) وتقواه وشجاعته وعلمه وسابقته في الإسلام وفضله في تأييده، فتصدّى له معاوية بن أبي سفيان وكان أبوه وأخوته من أشد الناس مقاومة للإسلام عند ظهوره ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وإنما أقدموا على ذلك مضطرين لما رأوا الإسلام قد تأيد في جزيرة العرب ولم يبق سبيل إلى مقاومته.
وكان أبو سفيان والد معاوية زعيم أهل مكة وقد حارب النبي (صلّى الله عليه وآله) في عدة أماكن وجاهر بعدوانه وطعن فيه فلما ظفر المسلمون في غزواتهم واشتد أزرهم وهموا بفتح مكة ومشوا حتى أقبلوا عليها كان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا منها يتجسسون، فلقيهم العباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له أبو سفيان وقد أسقط بيده: (لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيماً) فأشار عليه العباس أن يستأمن فلم ير له حيلة في غير ذلك فاستأمن ثم فتحت مكة ولم يكن له بد من الإسلام فأسلم هو وأولاده وفيهم معاوية وقد تألفهم النبي (صلّى الله عليه وآله) بالعطاء ليثبتوا في إسلامهم.
معاوية وعلي (عليه السلام)
وكان بنو أمية ينظرون إلى ما ناله بنو هاشم بالنبوة من السلطان والجاه ويتوقعون فرصة للقبض على أزمة الملك، فلما قتل عمر بن الخطاب وأمر بالشورى اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب من دسيسة أموية. وكان عثمان ضعيفاً يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة فاغتنم الأمويون ضعفه وتولوا الأعمال واستأثروا بالأموال فشق ذلك على سائر الصحابة فنقموا عليه وقتلوه.
فاتخذ الأمويون قتله ذريعة للقبض على الخلافة ورئيسهم معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام ومعه رجال قريش، وكان أدهى أهل زمانه بلا منازع فنظر في الأمر نظر رجل يطلب الملك كما يطلبه أهل المطامع وطلاب السيادة في كل عصر بلا علاقة بالدين وقد ساعده على ذلك أن خصمه علياً (عليه السلام) كان يعتبر الخلافة منصباً دينياً وهو زاهد في الدنيا لا مطمع له في غير الثواب والحسنى. وإن رجال معاوية قد ذهبت منهم حرمة الدين ونسوا أبهة النبوة وذاقوا لذة الثروة وتعودوا السيادة فاتسعت مطامعهم، فأثمرت مساعي معاوية في اصطناع الأحزاب بقاعدة ذكرها في حديث دار بينه وبين عمرو بن العاص فقال معاوية: (لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت) فقال عمرو: (وكيف ذلك؟) قال: (إن هم شدوا أرخيت وإذا أرخوا شددت).
فأول شيء فعله معاوية أنه استعان بثلاثة من كبار الصحابة يعدّهم المؤرخون أدهى رجال العرب ومعاوية أدهاهم جميعاً وهم عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة ولولاهم لم يستتب له الأمر لأن ابن العاص احتال في نجاته من واقعة صفين بعد أن كادت الدائرة تدور عليه إذ ظهرت جيوش علي (عليه السلام) على جيوشه فأشار عليه عمرو بن العاص أن يرفع المصاحف لإيقاف الحرب ثم أشار بالتحكيم وخدع أبا موسى الأشعري نائب علي (عليه السلام) في ذلك التحكيم فخلع عليّاً وبايع معاوية. ونال عمرو في مقابل ذلك ولاية مصر طعمة له طول العمر، وزياد بن أبيه رجل لا يُعرف له أب فلما رأى معاوية دهاءه قرّبه منه وادعى أنه أخوه واستلحقه بنسبه وسماه زياد بن أبي سفيان في حديث طويل واستلحاق زياد أول عمل ردّت به أعلام الشريعة الإسلامية علانية وكان زياد عوناً كبيراً لمعاوية في حفظ العراق وفارس. أما المغيرة بن شعبة فهو أول من ضرب النقود المزيفة في الإسلام وأول من أرشى وهو الذي حرّض معاوية على مبايعة ابنه يزيد وجعل الخلافة وراثية في نسله وساعده على ذلك فهؤلاء وغيرهم من كبار القواد اكتسب معاوية مساعدتهم بالدهاء والأطماع فأطعم ابن العاص مصر وأطعم المغيرة فارس وجعل زياداً أخاه وكان يتساهل في محاسبة عماله ويغضي عن سيئاتهم ويبالغ في إكرامهم. ولو رأوا من علي بعض ذلك لكانوا معه ولكن علياً كان دقيقاً في محاسبتهم متصلباً برأيه لا يحيد عما يقتضيه ضميره.
رغبة بني أمية في السيادة
إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية والغرض الذي كانوا يرمون إليه إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية بقطع النظر عن وعورة المسالك المؤدية إلى ذلك أو وخامة الأسباب التي تمسّكوا بها. وقد فازوا بغايتهم فاتسعت المملكة الإسلامية في أيامهم واشتدت شوكتها مما لم تبلغ إليه دولة العباسيين بعدها وكانوا يطلبون السلطة على أن لا يشاركهم فيها أحد، وكان أشدهم فتكاً عبد الملك بن مروان يقول (لا يجتمع فحلان في أجمة) فرغبة بني أمية في السلطة على هذه الصورة مع وجود من هو أحق منهم بها جرّهم إلى ارتكاب أمور آلت إلى توجيه المطاعن عليهم، وقد ظهرت هذه الدولة وتغلبت على سائر طلاب الخلافة في أيامهم بشيئين: العصبية القرشية واصطناع العصبيات أو الأحزاب الأخرى وهما أساس كل ما ظهر من سياسة بني أمية كما سترى.